من كتابات د. عبد الباقي ابراهيم -عام 1995.
سبب النشر هنا والان.. (بعد 20 عام).. هو للمقارنة مع طريقة التفكير والفكرالمعماري الحالي والانتقال في كيفية تقبلنا للنظريات المعمارية سابقا وحاليا. ورغم ان الاستياء قد يسود المقالة (وهو ظاهر في العنوان ايضا) لكن باب الرجاء لم يغلقه. بحضور "فكر".
يمر
الفكر المعماري العربي بمرحلة جديدة من تعدى الفكر الغربي الذي صدر إليه من قبل نظرية العضوية لفرانك لويد
رايت ثم نظرية الوظيفية لـ (ليكوربوزيه) ثم نظرية الأقل هو الاكثر لـ (ميس فان دروه)
ثم نظرية عمارة الماء والهواء لـ (لويس كان) وقبلهم ربط الفن والعمارة والصناعة
بالمجتمع لجماعة (سيام) ثم ظهرت نظرية ما بعد الحداثة ثم نظرية الاقليمية ثم نظرية الكلاسيكية
الحديثة وأخيرا نظرية (الديكونستركشن) التي يصعب ترجمتها إلى العربية.. وهكذا تظهر
النظريات في العمارة الغربية .. الواحدة تلو الأخرى.. والمعماري العربي في كل ذلك
يقف فارغا فاه لكل جديد.. ينفعل به من الظاهر ولا يتفاعل معه من الباطن وهو
بطبيعته المتلقية لا يشارك في إفراز هذ النظريات التي تتدفق عليه بن الحين والحين..
وهو لا يستطيع أن يقف أمامها متأملا أو مقوما أو مناقشا.. بل يتقبلها كما هي ويؤيدها
بل ويدعو لها بحجة أن العالم أصبح قرية صغيرة وأن الأقمار الصناعية أصبحت في تناول
كل المجتمعات فلا داعى للتقيد بالتقليدية أو التراثية شكلا أو مضمونا أو استمرارية..
فالتاريخ في نظره يمتد من العصر الفرعوني ثم اليوناني ثم الروماني ثم العصور
الوسطى وعصر النهضة ثم الثورة الصناعية ثم عصر الاتصالات والأقمار الصناعية... وهوخط
قطار الغرب السريع... أما جذوره الحضارية
من العصر الفرعوني والأشوري لا حتى العصر اليوناني والروماني والقبطي والإسلامي
وحتى عصور الاستعمار وعصر الاستقلال الحديث فهي بالنسبة له جذور مقطوعه. وكاد المعماري
العربي أن ينسى حتى لغته وبدأ يتمسح بالألفاظ الإنجليزية والفرنسية في كلامه وفى
مسمياته ليدخل بذلك عهد التغريب.. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على ضعف المعماري العربي
أمام الغزو الثقافي الغربي ونظرياته المتغيرة والتي تتطور مع تطوراته الاقتصادية
والاجتماعية والثقافية وابتكاراته الصناعية والتكنولوجية التي ينتظرها المعماري العربي
ليطبقها على مجتمعات ناميه ليس لها نفس القوة الاقتصادية والصناعية وليس لديها نفس
القيم الاجتماعية والثقافية.. بل ترزح غالبية شعوبها في اتون الفقر والجهل والمرض
وتتطلع لمن ينقذها ويبنى لها بوسائل التقنية المتوافقة.
إذا كانت موضه (الديكونستركشن) ظهرت في أمريكا والغرب كمحاولة للتخلص
من المحددات المعمارية والانطلاق بحرية التصميم والتشكيل دون محددات إنشائية واقتصادية
أو وظيفية بل من منطلق الأبداع والانطلاق في مجتمعات استقرت أمورها الاقتصادية
ونضجت إمكانياتها التكنولوجية وتقدمت أوضاعها الاجتماعية والثقافية.. وذلك من قبيل
الرفاهية العلمية.. فإن ذلك لا يمكن أن ينطبق على مجتمعات محدودة الامكانيات تسعى
لسد الحد الادنى لاحتياجاتها الحياتية ويجدر بهؤلاء الذين يعتنقون هذا الفكر الغربي
أن يحاولوا تطبيقه على الحالة العربية بإمكانياتها التكنولوجية ومستوياتها
الثقافية وأوضاعها الاقتصادية حتى لا تصبح العمارة التي يقدمونها في هذا الاتجاه
كعمارة القرود. خاصة وهم في بداية الطريق الذي
إن وصلوا إلى نهايته وجدوا أنفسهم أمام اتجاه أخر جديد أفرزته العقلية الغربية
المتحركة المتطورة .. ومن العجب أن تظهر كل هذه النظريات المعمارية المشتقة من
نتاج الفكر الغربي دون أن يحاول أحد من المعماريين العرب أن يقتحم هذا الستار ليثبت
نفسه نظرية جديدة في العمارة المعاصرة لماذا لا يحاول علماء النظريات المعمارية من
المعماريين العرب أن يقدموا للعالم نظرياتهم الابداعية المتطور سواء من واقع تراثهم
العريق. أو من منطلق تطلعاتهم العلمية حتى لا يبقى المعماري معلقا دائما بما يقدمه
له الغرب من فكر أو نظرية لا يستطيع حتى ترجمة اسمها وقد يشعر البعض ممن فاتهم قطار
النظريات الحديثة بالنقص أحيانا وبالتخوف أحيانا أخرى أن يوصفوا بالتخلف فيحكمون
على ما لا يعرفون أو يدركون من التصميمات التي تقدم إليهم مدعية التجاوب مع أخر الصيحات
والموديلات في سوق العمارة الدولية... حتى وإن كان فيها خللا في الانشاء أو إسرافا
في الاستعمال أو تحريفا في الاشكال... أو هدما للقواعد والقوانين.. أو عدم التزام
بالبرنامج الموضوع. وهكذا يضيع الموضوع بن الادعاء والاستسلام تماما مثل الذين
يحاولون إقناع أنفسهم بأن موسيقى الأحجار تشنف الأذان ويتأففون من التواشيح والأدوار
"جمع دور" والقدود "جمع قد" والموال والطقطوقة ..ويرقصون على
أنغام السامبا والرومبا والفوكس تروت.
يقول
(ليون كرير) في كتاب (الريكونستركشن والديكونستركشن) أنه لا يوجد تعارض بين التقليدية
والحداثة وأن الثقافات التقليدية تهتم بإنتاج الأعمال التي لها استعمال طويل الأمد
أما الثقافات المستحدثة بالنقيض تعنى بالإنتاج للاستهلاك قصير الأجل.. ويؤمن على كلامه
بيتر ايزنمان قائلا هذا صحيح وأنني عندما أزور مبنى البانثنون في روما أشعر أنه
ليس إلا مبنى أثرى وليس له أي علاقة بالبناء اليوم.. لقد انتهى من التواجد الحالي.
ومنذ عشرين عاما كنت أعجب بكنيسة (رونشامب) التي صممها ليكوربوزيه.. والآن عندما
أزورها أشعر أنها مثل البانثنون وأنها أصبحت جزء من التاريخ إن العمارة تقاس بالمدى
الزمنى لحضورها على مر التاريخ... وهكذا يدور النقاش حول موضوع الكتاب الأول يدعو
إلى الاستمرارية الحضارية والثاني يدعو إلى التغيير الجذري والتغيير هنا يتم في
إطار المتغيرات الثقافية والتكنولوجية لكل مجتمع تبعا لقدرته على التغيير.
يقول
(تشارلز جينكز) في كتابه (الحداثات الجديدة) أن رائد الديكونستركشن فرانك جيرى يهتم
دائما بالتفكير العكسي أو الابتكار السلبى.. أو قلب القواعد الثابتة وعرض بعد ذلك
عددا من أعماله المعمارية التي لا تتحقق إلا بتكنولوجيا البناء المتقدمة التي
يتقنها الغرب بغض النظر عن تقييمها الفكري أو التشكيلي الذي يضطلع به النقاد كما
اتضح في أول معرض لهذا الاتجاه المعماري عام 1988 في قاعة (تيت) بلندن والأمر هنا
لا يخرج عن محاولة الابداع في التشكيل الفراغي الداخلي والخارجي مبنى دون التقيد بأي
فيود إنشائية أو فنية أو وظيفية أو اقتصادية أو تراثية.. انه الانطلاق بلا حدود في
مجتمعات انطلقت بلا حدود تكنولوجيا وثقافيا واقتصاديا بغض النظر عن المضمون الحضاري
لهذا الانطلاق . انه الحوار المستمر بين قادة الفكر الذى يفرز الجديد من الفكر
فأين كل هذا من ساحة العمارة العربية التي شهدت عصرا غنيا من البناء والتعمير لم يظهر
فيها إلا قلة قليلة جدا من المفكرين المبدعين ركنوا إلى ركن بعيد من الساحة.. لا يعلم
عنهم أحد.. لا يعرفوا أنفسهم لأحد.. والمعماري العربي
لا يزال ينتظر الجديد دون أن يشارك في انجازه ليقدم نماذج من عمارة ا لقرود.
إن
المائدة المستديرة لا تزال تنتظر أصحاب الفكر من المعمارين العرب... لبدء الحوار.
لمزيد من المعلومات عن د. عبد الباقي محمد ابراهيم (wiqipedia.org)
هو من رواد الجيل الثاني للعمارة في مصر، ولد في 4 مـارس 1926، عاصر حسن فتحي الملقب بشيخ معماريي مصر وعمل معه لفترة من الزمن، تخرج من جامعة القاهرة وابتعث إلى جامعة ليفربول عام 1955 للحصول على درجة الماجستير، اختار عبد الباقي إبراهيم أن يمكث في ليفربول لأربع سنوات كاملة، انتقل عام 1959 إلى نيوكاسل حيث أكمل دراسته للدكتوراه هناك وعاد بعدها إلى مصر. خلال سنوات عمره أمد المكتبة العربية بالعديد من المؤلفات في مختلف المجالات العمرانية، مرتكزا على المنهج الإسلامي في منظوره للعمارة والعمران، وقد أصبح مرجعا للدارسين والباحثين في هذا المجال.
تعتبر رحلة عبد الباقي إبراهيم منذ عام 1949 وحتى رحيله عام 2000 رحلة طويلة أثري خلالها الحقل المعماري والعمراني المصري والعربي بالعديد من الإضافات في مجال التعليم والتأليف والنشر والممارسة المهنية والمشاركة الإيجابية في المؤتمرات والندوات في مصر والخارج داعيا إلي تأصيل الفكر المعماري من خلال الواقع الحضاري والبيئي للعالم الإسلامي والعربي.
في بداية الستينات لدى عودته من بريطانيا شارك حسن فتحي في لجان الإسكان الريفي بوزارات البحث العلمي واستمرت العلاقة وطيدة معه إلى أن أوصاه حسن فتحي قبيل رحيله بحمل رسالته الإنسانية من بعده في إسكان الفقراء, وكان لذلك أثرا كبيرا على عبد الباقي لبقية حياته التي كرسها لاكتشاف مواطن القوة والجمال في تخطيط المدينة الإسلامية ودعا إلى تأصيل هذا التخطيط واعتماده كخلفية رسمية عند تخطيط المدن الجديدة أو إعادة تخطيط المدن القائمة في بلدان العالم العربي، كما اجتهد في استنباط العناصر التراثية في العمارة الإسلامية وإعادة تقديمها بصيغة معاصرة.
No comments:
Post a Comment