البعد الخامس في العمارة
بقلم - م.م. زمن وضاء
كم سيبدو رائعا امتلاكك لتفسير لكل شيء في هذا الكون .
امتلاكك لنظرية صيغتها ومداها يتضمن ويغطي الإجابة عن كافة الاستفسارات والتساؤلات
حول الكون والوجود والظواهر الفيزيائية بحيث يمكن أن تزيد ولكن لا يمكن أن تنقص.فعلى سبيل الافتراض وجود بعد يغطي مداه كافة الاحتمالات
الممكنة لمسارات للأقدار ( حالة الكون ) ضمن خط الزمن ( المتفرعة من كل لحظة زمن )
بحيث يغطي هذا البعد كل الأقدار الممكنة التي التي يتعلق الوصول لكل منها اختيارها
على ارادتنا ، ارادة الآخرين ، الحظ ( وهي ما نسميها مجتمعة بـ القدر ).
" النظرة المختلفة للاشياء"
كيف يمكن ان
يتحقق هذا الافتراض؟
تخبرنا ميكانيكا الكم بأن الجزيئات التحت ذرية والتي
يتكون منها عالمنا تنهار معاملاتها كموجات احتمالية بفعل الملاحظة ولهذا فإنه في
الصورة التي نرسمها لأنفسنا نستطيع ان نبدأ برؤية كيفية تسببنا بانهيار الموجة
اللامحددة للاتجاهات المستقبلية المحتملة التي يتضمنها هذا البعد الجديد في خط
البعد الرباعي الذي نعيه وهو الزمن .وردت هذه الفكرة في رواية " الرمز
المفقود " لدون براون .
الرمز
المفقود لداون براون ص63
اما في العمارة يقول د علي ثويني "ان محتوى العمل المعماري يوجه
من أعماق فيض فكر المعمار للناس الذين يمتعهم جمال ودفء وروح الإنجاز، وهكذا يبقى
الشكل انعكاساً مادياً لمحتوى الإنجاز. وأختلف القوم في وجوب أن يكون الشكل جذابا
يدغدغ شغاف القلوب،أو يكون نتاجا غير ذي شأن لحبكة وظيفية وجدوى معيشية".
وهكذا فأن الممارسة الفنية في العمارة تعني نقل عواطف إنسانية مثلما ينقل الكلام
أفكار البشر.
ويمكن
تلمس هذه العاطفة في عمران المدن التراثية التي تبدو وكأنها بيت كبير يحتضن نفوساً
متحابة، فهي بالنتيجة تداخل بين الذاتي والموضوعي.وقد أمست المدينة بيت
الجماعة،البيوت فيها خلايا نابضة بالحياة ودفء المشاعر وقربى النفوس. ويمكن أن
يكون ذلك استرسالا من تراث الشرق القديم حينما أطلق العراقيون لفظة البيت على
المدينة، ولم يكن سورها إلا حدوده وسياجه. وحدث أن أقتضبت لغويا كلمة بيت إلى باء،
وهكذا نجد جل التسميات تبدأ بها مثل بغداد(بيت غدادو) وبصرة(بيت صراياثا)
وبعشيقه(بيت العشيقة) وبعقوبه(بيت العقوبة) وبدرة (بيت ذرايا)...الخ.
وفي
السياق العاطفي للعمارة نسرد ما قاله الشاعر الفرنسي (فاليري) شعرا: (العمارة
هي ليست إلا شكلا من أشكال محبة الناس). ولا يمكن أن ينكر أحد أن عمارة تاج
محل في الهند كانت ذروة التعبير عن جذوة المحبة التي أراد أن يكرسها (شاه جيهان)
لزوجه (ممتاز)، وهي شهادة إسلامية في العمارة و امتداد لحالة إنسانية، دعا إليها
الدعاة والرسل وتبنتها الأديان وآخرها الإسلام، جوهرها محبة الله وخلقه.
مما تقدم نجد ان بعدا خامسا ظهر بإلاضافةً للأبعاد الأربعة
المعروفة في كل عمل فني وإبداعي هي الطول والعرض والعمق أو الارتفاع فضلاً عن
البعد الرابع وهو الزمن ليضيف إليها البعد الخامس وهو (اللاوعي)، أو اللاشعور أو
التلقائية في الخيال البعيد عن الوجود، بل الراسخ وجوده في الخيال العقلي، ويرتبط
اللاوعي بسيكولوجية الإدراك، والقابلية على التأويل غير المرئي بل المدرك مرئياً
من خلال العقل الباطن. ويشير المدفعي إلى التأثير الكبير للبعد الخامس (اللاوعي)
في بناء التجربة الفنية وبناء العمل الفني من خلال الإرهاصات والانفعالات الشخصية
التي يتأثر بها الشخص أو الشخصية المبدعة في نتاجه الفني. فالسراب في الصحراء هو
لاوعي وهو بعد خامس وله واقعه الملموس في التفكير والبحث عن الحياة والاستقرار من
خلال انفعالات ضاغطة في رؤيا الإنسان المبتكر ولاسيما الفنان المبدع.
ويقودنا هذا البعد الى مقارنة العمارة كفن وروحانيات وإدراك
للجمال وبين العمارة كهندسة هياكل إنشائية
وخامات بناء وأرقام وأسعار وتكاليف وحسابات مادية مصدعة للرأس.
العمارة كهيكل انشائي:
لقد تعاملت العمارة على
مر العصور بحذر مع الواقع الإنساني والبيئي، مجبرة بحججها الرصينة على أن ترسم في
كنفها خطا عقلانيا للهندسة والإنشاء وكذلك الفنون.
ورغم اعتماد المعماري على الإنشاء كقيمة جوهرية والعلم كوسيلة
لتحقيق الإنشاء، وبالرغم من اعتماد المعمار على الإنشائي وتأثره به، فان العمارة
لم تشذ أنملة عن الفنون، ولا تزال تعتبر خير تجسيد لرهافة الحس وعمق الخيال فيها.
وثمة أمور وخواص تكتنفها تلك الخامات الواردة من العلم والأجسام المتمخضة من النظم
الإنشائية، التي مازال الإنشائيون والعلماء لا يفقهون كنهها وهي ثمرة ذلك الخيال
المعماري الذي سوف يوظفها في تحقيق المنفعة والمتانة والجمال. وهذا يدخل في صلب
مهمته الإنسانية، ويمكن اعتبار هذا المفهوم خير تعريف للعمارة في كل زمان ومكان.
العمارة فن روحاني :
نجد ان
المعماري لا يمكن أن يقلد رجل العلم لتحاشي حالة الإرباك العقلية والمنطقية التي
تكتنفها، وهو الذي يفهم العمارة بالبصيرة والإدراك perceptionبما لا يفهمه العقل. وهكذا فأن الإنشاء
والهندسة لهما مبرر reason، ولكن للعمارة معنى meaningروحي عميق. وبالرغم من حضور الذكاء والعلم والخبرة ولكنها لا
تتعدى الضرورة في توفر البصيرة والخيال والعواطف والمشاعر الجياشة. وبذلك فأن
الأعمال النفعية المحضة تخدمنا، ولكنها لا تحرك مشاعرنا أو تثير بالضرورة الإحساس
الفني و الشاعرية فينا. وبذلك فأن مهمة العالم والإنشائي أن يكشف للمعمار الحقائق
وتبقى مهمة المعمار تحقيق ذاته خلالها، ليعكس بحسه روح العصر ومقتضيات البيئة التي
يعيشها.
لم يدر في خلد الساسة والمعماريين بان
العمارة هي هندسة في جانبها المادي والرقمي، و يحظى في حيثياتها الجانب الروحي
والأخلاقي والجمالي بالسبق، ويشكل قاعدة توازن بين المفهومين.والعمارة هي في
العادة ممارسة إبداعية للارتقاء إلى حياة أفضل، وبحث دؤوب في خلق سكن أمن نفسي
وجسدي، بينما الهندسة هي أسلوب البناء أو ما نسميها (تقانة) أي طرائق تنفيذ و حساب
كمي وعددي كهدف أساس يراد منه: كذا وحدة سكنية، وكذا مساحة مبنية وكذا كتلة من
مادة البناء.وهكذا فأنها عملية حساب كمي ثم ربحي، بينما تبقى العمارة دائماً هي
عملية مقياس النوعية ومجس الاقتراب من الراحة والطمأنينة للإنسان.
وخلاصة لذلك يؤسفنا اليوم للخلل الذي طرأ في تآصر الابعاد
الاربعة (الطول,العرض,الارتفاع,الزمن) حينما دخلت المجتمعات في حمى سباق الأرقام
وطغى تطور الهندسة والعلوم التي سايرت حيثيات الخطوط البيانية للاقتصاد والبورصة
وتوابعها في الربح والخسارة و"معمعة المادة". ثم استطاعت أن تجذب
العمارة إلى مواقعها حيث جرت لاهثة وراءها متناسية غايتها الأولى، ونفحات الروح
التي تكتنفها وارتباطها السرمدي بالحس الإنساني و "البعد الخامس" لها.
No comments:
Post a Comment